كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الذين نشروا الدين في أرجاء الأرض بعلمهم وعملهم! وأن القلة من الآخرين، هم الغرباء بتقواهم، وسط قوى مناوئة، وخصومات مؤذية.. أما الرسل السابقون، فقد كانت رسالاتهم مؤقتة ومحدودة، تمت في أعصار قليلة ومدن معدودة.. ونحن نحترم أصحاب موسى المؤمنين بتوراته، وأصحاب عيسى المؤمنين بإنجيله، وأين هم من قرون طوال؟! اختفوا واختفت هداياتهم، وحل مكانهم من لا صلة له بالسماء. ونلحظ أن أولى أوصاف السابقين، أو أولى الميزات التي يربحونها هي القرب من الله سبحانه، أو هو الرضوان الأكبر، ولذلك قيل {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم}. فلنتأمل في حال أولئك الذين سكنوا في بلاد الأفراح. إن الإيمان بالغيب الذي عرفوه في الدنيا أضحى إيمان شهود! وعظمة الله التي صدقوا بها نظريا في الأيام الخالية رأوها معاينة في هذه الأيام! ومن ثم فهم يلهجون بالثناء على الله وشكره وتحميده وتمجيده! وهذا الذكر الموصول! يتم دون معاناة أو كلل أو ملل، بل ينبعث عنهم كما ينبعث الزفير والشهيق من صدورنا في هذه الحياة.! وفى الآية {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. إنهم يشركون الملائكة في استدامة التسبيح دون أي شعور بكلفة {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}. وإذا كان في القوم من قام بالقرآن في الدنيا وعاش له يحميه ويتلوه ويبلغه، فإنه يقال له ما جاء في الحديث الشريف «يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا». نعم لقد أضحى مع السفرة الكرام البررة، بهذه المهارة وتلك الإمامة. إن أهل الجنة يحلو في مذاقهم ترديد الباقيات الصالحات فهم يهتفون بها عن حب ورغبة، ولعلها وسمت بالبقاء والصلاح لأنها تعلو على الفناء، وكيف تفنى هذه الشعارات، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؟ كانت في الدنيا قواعد لسلوك المؤمن، ثم أضحت في الآخرة شارة أهل النعيم. ماذا فعل غيرهم؟ استرخى فحجب. وقد قيل الأحجار في طريق الكسالى عوائق وفى طريق الناشطين سلالم، الأولون ينكصون، والآخرون يصعدون! ومن ثم قيل في وصف الجزاء المعد للمقربين {جزاء بما كانوا يعملون}. والكريم إذا وفد عليه ضيوف أكرم نزلهم، وأجزل عطاءهم، فأين كان أهل الجنة ينزلون بعد عودتهم إلى الله؟ إن أقل ما يقدم لهم هو أعلى وأغلى ما كان ملوك الأرض يتمتعون به! ونحن نعلم أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ونعلم أن الأسماء التي تطلق على ما في الجنة هي عناوين تقريبية، وأن ذكرها ضرب من التشويق للعاملين في الدنيا، والأمر فوق ما نتصور! المهم أن أهل الجنتين- مع ما يتقلبون فيه من نعماء- ليسوا أهل بطالة وخمول، إنهم يلهمون الذكر والشكر. ولا ريب أنهم سعداء بتكريم الله لهم، ولكنهم أسعد بما أتيح لهم من تحية الله ليلا ونهار، ومناجاته سرا وجهرا. ونشرح بعض الكلمات التي لا نألفها، والتي وردت في وصف الجنان: فالسرر الموضونة- هي المضفورة من المعادن النفيسة. {متكئين عليها متقابلين}، أي لهم مجالس مؤنسة يواجه بعضهم بعضا فيها. {يطوف عليهم ولدان مخلدون}. تخدمهم فتية يبقون ما حيوا في سن الشباب! ومع كثرة الشراب في الجنة من لبن وعسل وماء وخمر فإن الخمر المعنية خمرة أباحها الله لا تصيب بالصداع ولا الدوار {لا يصدعون عنها ولا ينزفون}. والنزف هو الهذيان واختلاط العقل وهو أمر معروف بين السكارى. من العلامات البارزة للجنة الحور العين. والحور العين هن بنات آدم بعد صوغهن في قوالب أخرى تجعل العجائز شواب والدميمة وسيمة! أو هن خلق آخر يبدعه الله في صور فتيات ساحرات العيون يستمتع بهن أهل الجنة. والظاهر أن الحور العين من الصنفين معا، وأن تغييرات كبيرة سوف تقع في أجسام الرجال والنساء وفى هيئاتهم، وهو تغيير الأشرف والأكمل.. فلن تكون لأبناء آدم فضلات، وسيلتئم شمل الأسرة المؤمنة على الحب والرضا، مصداق قوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}. والواقع أن الجسم الإنساني، على روعة، إبداعه له عوارض محرجة ومزعجة، وما يتم النعيم إلا بتعديل أجهزته على نحو أسمى وأنظف وأقوى وأجمل. وربما كان خلقه على ما نحس بعض الامتحان الذي فرض علينا في هذه الدنيا.
ولا توجد في القرآن سورة تستوعب كل الأجزية الحسنة المعدة للمتقين، وإنما تعرض مناظر، أو تلتقط صور لجوانب من النعيم تناسب كل سورة، وتشرح صدور القارئين بما تثير من أشواق وتفتح من آمال. وفى هذه السورة رأينا لونا من النعم المعد للسابقين ولأصحاب اليمين، وهم أكثر عددا من الصنف الأول {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}. ولبيان بعض الكلمات التي وردت في ثوابهم، تظهر صنوف النعيم. فالسدر شجر يثمر النبق! وينبت مع كثرة الماء، ولعل ذلك سر نفاسته في الصحراء، مع نكهته اللطيفة، ويصحبه دائما شوك قد يخدش لكنه في الجنة مخضود لا شوك فيه! أما الطلح المنضود، فهو الموز المنسق المركوم في نظام، وقيل ثمر يعرفه أهل الغرب وغيرهم، والظل الممدود، هو الذي لا يتقلص مع وقدة الشمس {أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا}. والماء المسكوب ما يجرى تحت القصور في الجنة أو ما تدفعه النافورات إلى أعلى. ولما كانت الفواكه في الأرض موسمية تظهر في بعض الشهور وتختفي بقية العام، وصفت فاكهة الجنة بأنها {لا مقطوعة ولا ممنوعة}. والعروب المرأة المتوددة إلى زوجها المقبلة عليه! والجمع عرب. وسواء كن من نساء الدنيا بعد صياغتهن الجديدة أو من الحور المنشآت لأهل الجنة، فهن متقاربات الأعمار، وذاك معنى قوله تعالى: {عربا أترابا لأصحاب اليمين}. والكلام كله- فيما نرى- من البشريات لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالسابقون قلة من المعاصرين، ولكنهم ثلة من الأخلاف كبيرة.. ويجوز غير ذلك.
ثم ينتقل السياق إلى أصحاب المشأمة، أو أصحاب الشمال، وهم جمهور الملاحدة والفسقة والمكذبين ممن شاقوا الرسل، وعادوا الدين كله، ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها وسخروا مما وراءها، ولم يعرفوا في دنياهم إلا مآربهم. وقد استخدمت مصطلحات في صفة العذاب {في سموم وحميم} تلك الريح اللافحة بحرارتها، من السم لشدة أذاها وحميم ذلك الماء الساخن الذي يغلى. {وظل من يحموم} دخان كثيف أسود لا قيمة لظله، ولذلك جاء في موضع آخر {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب}، وهو من الحمم جمع حممة، الفحم وبم استحق أصحاب الشمال هذا العذاب؟ لأنهم لم يتقوه في الدنيا بعمل صالح، بل هم لم يؤمنوا به أصلا، وكانت معيشتهم على ظهر الأرض تشبعا من اللذات المتاحة أو جريا وراءها سواء وجدت أم لم توجد. وقد وصف الله سبحانه معيشة الكافر في الدنيا، وانحصاره فيها وحدها، فقال: {إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور}، يرجع إلى ربه {بلى إن ربه كان به بصيرا}. والكافرون يبنون حياتهم على ألا بعث! وهذا الفكر يكاد يطوى الآن المشارق والمغارب، وهو أساس الإيغال في المعاصي والانكباب عليها دون شعور بقبحها أو ندم على اقترافها.. وذلك هو الحنث العظيم، أي المعصية الفادحة التي عناها النظم الكريم في الآيات {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}. ويعود الكلام مرة أخرى إلى وصف ما يلاقيه الملاحدة من عذاب {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم}. والزقوم طعام مرير قبيح- أعاذنا الله منه- إذا أكله صاحبه اهتاج إلى طلب الماء فلم يجد إلا ماء يغلى {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}. ومع أثره الفظيع فإن أكل الزقوم يتطلب المزيد من الشراب لما يحسه من عطش! فهو كالبعير الأهيم المصاب في أمعائه بحمى تحمله على طلب الماء بنهم لا ينقضي. وقد وصف أهل النار بأنهم يملئون بطونهم من الزقوم ثم يبحثون عن الماء بحث الإبل الهيم عما يرويها، وهيهات {هذا نزلهم يوم الدين}. وصور الثواب والعقاب كلها سيقت للترغيب والترهيب، ودعم تربية سليمة، لاسيما في هذا العصر الذي تضافر فيه العلم والفن والإعلام الهازل والجاد على تجهيل الناس بالآخرة، وصرفهم عن العمل لها. وإيقاظ مشاعر الرغبة والرهبة لا يكفى! بل لابد من إيقاظ العقل الإنساني ليفكر ويصدق ويتصرف بروية. الدليل الرابع الذي ورد في سورة الواقعة على أن البعث حق، نجده في قوله: {أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون}.
إن الماء أصل الحياة وأساس بقائها قال تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون}. ويكون الماء أربع أخماس الأرض، وله دورة تستحق التأمل العميق! فإن الريح تسوق السحب- مثلا- من المحيط الهندي لتسقط على أرضنا ودوابنا، ثم يذهب الماء المستعمل إلى مصارفه ومجاريه ويأخذ سبلا لا ندريها ليعود إلى البحار والمحيطات مكملا دورة ومبتدئا دورة أخرى لا يزيد ولا ينقص! قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون}. نعم الذي أوجده قادر على الذهاب به! {لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون}. إن المشيئة العليا وحدها مرجع الإيجاد والإفناء. والماء- وهو الوسيط الطبيعي للحياة هنا وللحياة بعد الموت- عنصر طيع لهذه المشيئة المطلقة، وقد جاء في السنة أن «الله ينزل مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس» وكانوا في قبورهم هلكى.. وعذوبة الماء تتم في الجو، بين تفاعلات كهربائية تحدث عنها علماء الطبيعة، يشرف عليها الله وحده. الدليل الخامس:- {أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين}. هذا دليل كما أرى- يكشف عنه العلم الحديث فنحن عندما نتنفس نأخذ (الأوكسجين) ونطرد (ثان أوكسيد الكربون). وعكس ذلك يفعل النبات، فهو في تنفسه يأخذ (الكربون) ويدع (الأوكسجين). والكربون هو الفحم! وعجيب أن تكون الخضرة مخزنا للوقود، وأن يكون رفيف الحياة ستارا لأسباب الاحتراق والتلاشي. إن الشجر في جذوعه وفروعه وأوراقه الخضراء لا يلبث أن يجف ويتحول إلى هشيم تتأجج به النار! وهكذا نرى الموت في تضاعيف الحياة. إن خواص المادة، مفردة كانت أو مركبة، لا تزال موضع الدراسة والاستفادة.
والمركب الكيماوي قد تظهر له صفات مضادة للمفردات التي تألف منها، فالماء مثلا نشربه لنرتوي به ونذهب عطشنا! على حين نرى عنصريه اللذين تكون منهما أقرب إلى الإحراق منهما إلى الإرواء!
نحن نبصر في الحدائق والحقول آيات النضارة والنماء، ولا نبصر ما يتم بعد قليل من مظاهر التلاشي والاحتراق، وكذلك تتعاقب الأضداد، وما أيسر ذلك على القدرة الإلهية {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}. والأخشاب والأحطاب التي تتحول إلى تراب، يتحول ترابها مرة أخرى إلى سماد لأنواع النبات، كما يتحول النبات الذي نطعمه إلى خلايا حية في أجسامنا! والواقع أن الإنسانية كلها أمام موعدين: أحدهما قريب متعجل، والآخر متراخ متمهل. إنها أمام الموت الذي لا يطول غيابه، ولابد لكل امرئ أن يذوقه، ثم هي أمام الساعة التي لابد منها وإن طالت الأيام {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون} {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}. والتكرار المتعمد لذكر القيامة ليس تهديدا للحضارات أو وقفا للعمران البشرى- كما فهم القاصرون- وإنما هو لكسر الغرور ومنع التطلعات الطائشة. والبشر مازالوا بحاجة ملحة إلى تذكر يوم القيامة، فإن هذا التذكر يهذب غرائزهم ويكفكف أطماعهم. والعقل العادي إذا علم أن هذا اليوم حق لم يؤثر قليلا على كثير، ولا فانيا على باق، ولم يزهد في جزاء الآخرة كما هو مسلك الحضارة المعاصرة! إن العلم الحديث ربما نجح في استكشاف بعض أسرار المادة وقوى الكون، فما دلالة ذلك وما جدواه؟ إنه لا يلغى حكمة الوجود ولا رسالة الأحياء على ظهر الأرض، تلك الرسالة التي لخصها القرآن الكريم في هذه الكلمات {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}. بل إن ميدان الاختبار الإلهي يتسع ويعمق بقدر ما انفتح على الإنسان من إمكانات مادية وأدبية. وقد ختمت سورة الواقعة بلون من التحدي تخسأ أمامه الخلائق: هل يستطيع أحد الإفلات من الجزاء الحتم؟ هل يقدر البشر مهما سند بعضهم بعضا على أن يدفعوا الموت، وينقذوا منه قريبا أو صديقا؟ {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين}.